الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي الكشف في توجيه كون السؤال المقدر في نظم الكلام عن وجدانهن فيه الميل، وذلك لأنه سؤال عن شأنهن معه عند المراودة، وأوله الميل ثم ما يترتب عليه، وحمله على السؤال يدعي النزاهة الكلية فيكون سؤال الملك منزلًا عليه إذ لا يمكن ما بعده إلا إذا سلم الميل، وجوابهن عليه ينطبق لتعدبهن عن نزاهته بسبب التعجب من قدرة الله تعالى على خلق عفيف مثله ليكون التعجب منها على سبيل الكناية فيكون أبلغ وأبلغ، ثم نفيهن العلم مطلقًا وطرفًا أي طرف دهم من سوء أن سوء فضلًا عن شهود الميل معهن اه، وهو من الحسن بمكان.وما ذكره ابن عطية- من أن النسوة قد أجبن بجواب جيد يظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف عليه السلام بعض براءة وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودنه قلن جوابًا عن ذلك وتنزيهًا لأنفسهن: {حاش لله} ويحتمل أن يكون في جهته عليه السلام، وقولهن: {ما علمنا} الخ ليس بإبرام تام، وإنما هو شرح القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن- ناشئ عن الغفلة عما قرره المولى صاحب الكشف.{قَالَت امْرَأَتُ الْعَزيز} وكانت حاضرة المجلس، قيل: أقبلت النسوة عليها يقررنها، وقيل: خافت أن يشهدن عليها بما قالت يوم قطعن أيديهن فاقرت قائلة: {الآن حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي ظهر وتبين بعد خفاء قاله الخليل، وهو مأخوذ من الحصة وهي القطعة من الجملة أي تبينت حصة الحق من حصة الباطل، والمراد تميز هذا عن هذا، وإلى ذلك ذهب الزجاج أيضًا، وقيل: هو من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه، وعلى ذلك قوله:
ويرجع هذا إلى الظهور أيضًا، وقيل: هو من حصحص البعير إذا ألقى مباركه ليناخ، قال حميد بن ثور الهلالي يصف بعيرًا: والمعنى الآن ثبت الحق واستقر.وذكر الراغب وغيره أن حص وحصحص ككف وكفكف وكب وكبكب.وقرئ بالبناء للمفعول على معنى أقر الحق في مقره ووضع في موضعه.و{الآن} من الظروف المبنية في المشهور وهو اسم للوقت الحاضر جميعه كوقت فعل الإنشاء حال النطق به والحاضر بعضه كما في هذه الآية وقوله سبحانه: {الآن خفف الله عنكم} [الأنفال: 66] وقد يخرج عند ابن مالك عن الظرفية كخبر «فهو يوهي في النار الآن حين انتهى إلى مقرها» فإن الآن فيه في موضع رفع على الابتداء، وحين خبره وهو مبني لإضافته إلى جملة صدرها ماض وألفه منقلبة عن واو لقولهم في معناه: الأوان، وقييل: عن ياء لأنه من آن يئين إذا قرب، وقيل: أصله أوان قلبت الواو ألفًا ثم حذفت لالتقاء الساكنين، ورد بأن الواو قبل الألف لا تقلب كالجواد والسواد، وقيل: حذفت الألف وغيرت الواو إليها كما في راح وراح استعملوه مرة على فعل وأخرى على فعال كزمن وزمان.واختلفوا في علة بنائه فقال الزجاج: بني لتضمنه معنى الإشارة لأن معناه هذا الوقت، وردّ بأن المتضمن معنى الإشارة بمنزلة اسم الإشارة وهو لا تدخله أل، وقال أبو علي: لتضمنه معنى لام التعريف لأنه استعمل معرفة وليس علمًا وأل فيه زائدة، وضعف بأن تضمن اسم معنى حرف اختصارًا ينافي زيادة ما لا يعتد به هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه فكيف إذا كان إياه، وقال المبرد وابن السراج: لأنه خالف نظائره إذ هو نكرة في الأصل استعمل من أول وضعه باللام، وبابها أن تدخل على النكرة وإليه ذهب الزمخشري، ورده ابن مالك بلزوم بناء الجماء الغفير ونحوه مما وقع في أول وضعه باللام، وبأنه لو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحرف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيره وهو باطل بإجماع، واختار أنه بني لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد لأنه لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر بخلاف حين ووقت وزمان ومدة، وردّه أبو حيان بما ردّ هو به على من تقدم، وقال الفراء: إنما بني لأنه نقل من فعل ماض وهو آن بمعنى حان فبقي على بنائه استصحابًا على حد «أنهاكم عن قيل وقال» وردّ بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه أل كما لا تدخل على ما ذكر، وجاز فيه الإعراب كما جاز فيه.وذهب بعضهم غلى أنه معرب منصوب على الظرفية، واستدل بقوله: بكسر النون أي من الآن فحذفت النون والهمزة وجر فدل على أنه معرب وضعف باحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء ويكون في بناء الآن لغتان: الفتح والكسر كما في شتان إلا أن الفتح أكثر وأشهر، وفي شرح الألفية لابن الصائغ أن الذي قال: إن أصله أوان يقول بإعرابه كما أن وأنا معرب.واختار الجلال السيوطي القول بإعرابه لأنه لم يثبت لبنائه علة معتبرة فهو عنده منصوب على الظرفية، وإن دخلت من جرّ وخروجه عن الظرفية غير ثابت، وفي الاستدلال بالحديث السابق مقال، وأيًا مّا كان فهو هنا متعلق- بحصحص- أي حصحص الحق في هذا الوقت.{أَنا راودَتُّهُ عَن نَّفْسه} لا أنه راودني عن نفسي، وإنما قالت ذلك بعد اعترافها تأكيدًا لنزاهته عليه السلام، وكذا قولها: {وَإنَّهُ لَمنَ الصَّادقِينَ} أي في قوله حين افتريت عليه: {هي راودتني عن نفسي} [يوسف: 26].قيل: إن الذي دعاها لذلكك كله التوخي لمقابلة الاعتراف حيث لا يجدي الإنكار بالعفو، وقيل: إنها لما تناهت في حبه لم تبال بانتهاك سترها وظهور سرها.وفي إرشاد العقل السليم أنها لم ترد بقولها: {الآن} الخ مجرد ظهور ما ظهر بشهادة النسوة من مطلق نزاهته عليه السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطن خصوصًا فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهور ما هو متحقق في نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه السلام في محل النزاع وخيانتها، ولهذا قالت: {أنا راودته} الخ، وأرادت- بالآن- زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن اه فافهم وتأمل هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم يتمالك الخصماء من الشهادة بها على أتم وجه. {ذَلكَ ليَعْلَمَ} الذي ذهب إليه غير واحد أن (ذلك) إشارة إلى التثبت مع ما تلاه من القصة أجمع فهو من كلام يوسف عليه السلام جعله فذلكة منه لما نهض له أولًا من التشمر لطهارة ذيله وبراءة ساحته، وقد حكى الله تعالى ما وقع من ذلك طبق الوجود مع رعاية ما عليه دأب القرآن من الإيجاز كحذف فرجع إلى ربه فأنهاه مقالة يوسف فأحضرهن سائلًا قال: ما خطبكن الخ؛ وكذلك كما قيل في: {قالت امرأة العزيز} [يوسف: 51] الخ، وكذلك هذا أيضًا لأن المعنى فرجع إليه الرسول قائلًا فتش الملك عن كنه الأمر وبان له جلية الحق من عصمتك وأنك لم ترجع في ذلك المقام الدحض بمس ملام فعند ذلك قال عليه السلام: ذلك ليعلم العزيز: {أنِّي لَمْ أَخُنْهُ} في حرمته: {بالْغيْب} أي بظهر الغيب، وقيل: ضمير: {يعلم} للملك، وضمير: {أخنه} للعزيز، وقيل: للملك أيضًا لأن خيانة وزيره خيانة له، والباء إما للملابسة أو للظرفية، وعلى الأول هو حال من فاعل: {أخنه} أي تركت خيانته وأنا غائب عنه، أو من مفعوله أي وهو غائب عني وهما متلازمان، وجوز أن يكون حالًا منهما وليس بشيء، وعلى الثاني فهو ظرف لغو لما عنده أي لم أخنه بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة، ويحتمل الحالية أيضًا.{وَأَنَّ اللهَ} اي وليعلم أن الله تعالى: {لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائنينَ} أي لا ينفذه ولا يسدّده بل يبطله ويزهقه فهداية الكيد مجاز عن تنفيذه، ويجوز أن يكون المراد لا يهدي الخائنين بسبب كيدهم فأوقع الهداية المنفية على لاكيد وهي واقعة عليهم تجوزًا للمبالغة لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى.وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته وبه في خيانته أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعدما رأوا الآيات الدالة على نزاهته عليه السلام، ويجوز أن يكون مع ذلك تأكيدًا لأمانته عليه السلام على معنى لو كنت خائنًا لما هدى الله تعالى كيدي ولا سدّده، وتوهم عبارة بعضهم عدم اجتماع التأكيد والتعريض، والحق أنه لا مانع من ذلك؛ وأراد بكيده تشمره وثباته ذلك، وتسميته كيدًا على فرض الخيانة على بابها حقيقة كما لا يخفى، فما في الكشف من أنه سماه كيدًا استعارة أو مشاكلة ليس بشيء.وقيل: إن ضمير: {يعلم} و: {لم أخنه} لله تعالى أي ذلك ليعلم الله تعالى أني لم أعصه أي ليظهر أني غير عاص ويكرمني به ويصير سبب رفع منزلتي وليظهر أن كيد الخائن لا ينفذ وأن العاقبة للمطيع لا للعاصي فهو نظير قوله تعالى: {لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب} [البقرة: 143] وله نظائر أخر في القرآن كثيرة إلا أن الله تعالى أخبر عن نفسه بذلك وأما غيره فلم يرد في الكتاب العزيز، وفيه نوع إيهام التحاشي عنه أحسن على أن المقام لما تقدم أدعى. اهـ.
{ذَلِكَ} تقول امرأة العزيز: ذلك الذي اعترفت به على نفسي: {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} أي: ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فاعترفت ليعلم أني بريئة: {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} أي: لا يرضاه ولا يسدده. اهـ.
|